صحراء النقب الثائرة فلسطينية الهوية وعربية الانتماء

238

المهباش والربابة والبكرج والمحماس والهاون

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

أهلنا في النقب عربٌ أقحاحٌ، وبدوٌ كرامٌ، وفلسطينيون أصلاء، ما زالوا على أصالتهم القديمة، وفطرتهم الصادقة، وطهارتهم الصافية، ونقائهم الأصيل، وخلقهم النبيل، يحافظون على بساطتهم وتواضعهم، وكرمهم وسخائهم، وحبهم للضيف وترحابهم بالغريب، وإغاثتهم الملهوف وعونهم المحتاج، ويحرصون على حفظ موروثاتهم القديمة، وعاداتهم الأصيلة، وتقاليدهم الخاصة، وقيمهم الدينية وتعاليمهم الإسلامية، التي بها يتميزون ويفتخرون، وعليها يصرون ويتواصون، وبها يغيظون العدو ويزعجون، ويتمسكون بها ويصمدون، فهي والأرض أساس وجودهم وعماد ثباتهم، وقد أثبتت السنون والأحداث، والتحديات والصعوبات، أنهم أقوى منها وأثبت، وأكثر رسوخاً في الأرض وأعمق جذوراً فيها.

 

أهلنا في النقب يعشقون مضارب العشيرة، والخيام وبيوت الشعر، ويتمسكون بحرفة الرعي وتجارة الأغنام، ويحرصون في كل قبيلةٍ على سرادق الضيافة، وخيمةٍ كبيرة يستضيف فيها شيخ العشيرة ضيوفه، ويلتقي بها مع أهل عشيرته، يتقدمها “كانون النار”، وفوقه “البكرج”، يحمله بين الحين والآخر صباب القهوة مرحباً بالضيوف ومؤهلاً بهم، و”الهاون” الذي به يسحنون قهوتهم دقاً بـــ”المهباش”، وما زال الحبل والبئر، والجرة وجراب الماء، والبعير والماعز والأغنام، وحليب النوق والماعز وساعات الصباح، والنار المشتعلة ومواقد الحطب، وأفران الطين وخبز الطابون، وغير ذلك مما اعتاد البدو على الاحتفاظ به واقتنائه، وهم على يقين ببقائه، ما بقيت شمسهم تسطع، وربابتهم تصدح، والماء من آبارهم ينضح.

 

عشائر العرب في النقب كبيرة وكثيرة، تنتشر على كامل تراب الصحراء الأصفر الممتد، وتمتد إلى صحراء سيناء المصرية، ولها بطونٌ وأتباعٌ وأبناءٌ في قطاع غزة، وما زال شيخ العشيرة هو سيد القوم وكبيرهم، وزعيمهم الذي لا يتقدم عليه أحد، ولا يرد أو “يكسر” كلمته أحد، فهو الآمر الناهي صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وعلى الجميع أن يصغي إليه ويسمع، وأن يطيع ويخضع، وهو الذي يجمع رجال عشيرته في سرادقه الكبير وخيمته الواسعة، وفيها تشتعل النار وتوقد الكوانين، وتعلق البكارج وتصب القهوة، ويدور الساقي على الرجال يقدمها، في طقوسٍ عربيةٍ أصيلةٍ، وشيقةٍ جميلةٍ، يعتز بها البدو ويفتخرون، ويحرص الفلسطينيون عموماً من أهل الحضر والمدن وسكان القرى والبلدات على تقليدهم.

 

والويل كل الويل لمن يخرج من البدو عن الطاعة، ويخالف شيخ العشيرة ويعصي أمر زعيمها، أو يشق عصا الجماعة ويخالف قرار القبيلة، أو يأتي بفعلٍ شائنٍ وعملٍ غير لائقٍ، فإن لعنة العشيرة وغضب القبيلة ينصب عليه، ويصبح ملعوناً مطروداً، لا يحدثه أحدٌ، ولا يخاطبه أو يساعده، ولا يزوجه أو يصاهره، وقد تشتد العقوبة وتقسى إذا أصدر شيخ لعشيرة إلى ذوي العاصي المخالف بمقاطعة ابنهم، وعدم السماح له بالدخول إلى بيتهم، أو الاجتماع بأهله وأولاده، حتى يأذن له شيخ العشيرة ويسمح له، ما لم تعلن العشيرة البراءة منه والتخلي عنه، وعدم الاعتراف به أو العفو عنه.  

 

يملك البدو في صحراء النقب بيوتاً عصريةً، ومباني جميلةً، وإن كانوا يحتفظون بالخيام وبيوت الشعر، التي تصلها الكهرباء، وتزود بخدمات الانترنت والصحون الفضائية اللاقطة، التي يشاهدون من خلالها مختلف المحطات التلفزيونية المحلية والعربية والدولية، وينشطون بهواتفهم النقالة الحديثة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ويتناقلون خلالها أخبارهم، ويوجهون دعواتهم، ويذكرون بمناسباتهم، ويتبادلون التهاني والمباركات، ويعممون تعليماتهم والتزاماتهم، وغير ذلك مما يجعلهم جزءً من المجتمع الحضاري، وبعضاً من نسيجه الحديث، الذي يستفيد من كل التقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتطورة.

 

لكن بيوت الشعر والخيمة، والجلابية والعقال، والثوب المزركش والزنار، والمضارب والربابة، وخضاضة اللبن “السعن” وقربة الماء الجلدية، والأغنام والمرعى والكلأ، والحمير والبغال والدواب، والنوق والجمال والدواجن، علاماتٌ بارزةٌ في حياة أهل النقب، وحاجاتٌ ضرورية ولوازم معيشية، لا يستغنون عنها ولا يفرطون فيها، ولكنها وإن دلت على القديم، وأشارت إلى الماضي، فإنها لا تمنعهم أبداً عن مواكبة العصر ومتابعة التطورات، ومسايرة الموضة والاستفادة من التقنيات، واستخدام أجمل العطور وأطيبها، وأكثرها شهرةً وأغلاها ثمناً، والظهور بأشكالٍ أنيقة والتعامل بصورةٍ حضارية تتوافق مع العصر والزمان، ولا تتناقض مع التطور والحداثة، ولا تتصادم المجتمع وتتعارض من البيئة.

 

أما المرأة البدوية ابنة النقب، ساكنة الخيمة وراعية الغنم، فقد يظن البعض أنها أميةٌ جاهلةٌ، وأنها لم تتعلم ولم تتثقف، وأنها بقيت حبيسة البيت ورهينة القبيلة، تحكمها طبائع العشيرة وتقيدها تقاليدها القديمة، وأنها تتلفح البرقع وتتخفى خلف ثوبها، الذي لا يظهر منها شيئاً ولا يشي بطبيعتها لأحد، ولكن الحقيقة التي نراها بأم العيون تقول أن المرأة البدوية الفلسطينية ثائرة كالرجال، ومنتفضة ضد الاحتلال، وأنها مربية الأجيال وأم الأبطال، وهي متعلمة ومثقفة، وتتقن إلى جانب لغتها العربية الفصحى البليغة، لغاتٍ أخرى كالعبرية والإنجليزية، وتحسن الحديث بطلاقة، وقد أظهرتها وسائل الإعلام تتحدث باللغة الانجليزية بطلاقةٍ وجرأةٍ وتحدي، وتحسن التعبير بها عما تريد وبما تعاني.

 

وهي المرأة نفسها التي تعتني بنفسها وتهتم بجمالها، وتتأنق بلبساها، وتحرص على أثوابها القشيبة وملابسها المطرزة الجميلة، التي تظهر قدها، وتبدي حسنها، وتميزها عن بنات جنسها، ويتنافس الرجال على خطبتها والاقتران بها، لجمالها ونسبها، ولسانها وعلمها، ولعل الأفراح وحفلات الزواج التي يعقدها البدو في مضاربهم، في سرادقات ضخمة للرجال وأخرى للنساء، يدعون إليها جميع أبناء العشيرة والقبيلة، ويبالغون في مظاهر الفرح والسرور، بإطلاق النار في الهواء، وعقد حلقات المبارزة بالسيوف، وأخرى للدبكات الشعبية والرقصات الفولوكلورية، التي ورثوها عن آبائهم وتميزهم عن غيرهم.

 

وفيها يذبحون مئات الذبائح من الإبل والغنم، ويولمون أعظم الولائم، يدعون إليها القريب والغريب، والضيف ومار الطريق، ليشاركوهم الفرحة، ويكونوا معهم في فرحتهم التي يعدون لها أشهر طويلة، وينفقون فيها أموالاً طائلة، وما زال أبناؤهم يتغنون بحفلات زواجهم، ويتباهون بأيام احتفالاتهم، ويعلمون الأيام ويميزونها بمثل هذه الأيام العظيمة، وعليها وغيرها من عاداتهم الأصيلة وخلالهم النبيلة، سيحافظ أهلنا النقبيون حتى يستعيدوا ووطنهم العزيز فلسطين الحرية والعزة والكرامة والتحرير والاستقلال.

التعليقات مغلقة.